-->

درس الفلسفة مجزوءة الوضع البشري/مفهوم التاريخ/المحور 2 التاريخ وفكرة التقدم.

 مجزوءة الوضع البشري/مفهوم التاريخ/المحور 2 التاريخ وفكرة التقدم.

ذ. عثمان حسيني



نموذج تطبيقي رقم 8 (التاريخ وفكرة التقدم)

تحليل ومناقشة سؤال فلسفي :

"هل يرسم تراكم التجارب الإنسانية وجهة محددة للسيرورة التاريخية ؟"

1)الفهم

تنطوي مجزوءة الوضع البشري على مفهوم التاريخ باعتباره مفهوما مركزيا، وهو يعالج بعدا أساسيا من أبعاد الوجود الإنساني وهو البعد الزمني؛ فالإنسان كائن تاريخي. وإذا أمكن اعتبار التاريخ هو "تراكم التجارب البشرية"، فإن هذا السؤال المعروض علينا يكشف عن البعد الإشكالي لفكرة التقدم في التاريخ؛ إذ سيتمحور النقاش الفلسفي والإشكالي في هذا السياق حول "مسار تقدم الأحداث التاريخية" فهناك من يعتبر أن التاريخ يأخذ مسارا خطيا متصلا لا قطائع فيه ولا انفصالات، فيما هناك من يعتبر أن التاريخ يأخذ مسارا منفصلا


ومتقطعا محكوم بالعشوائية واللانتظام. ومن خلال هذه المفارقة العامة يمكن صياغة مجموعة من التساؤلات الإشكالية من قبيل :

ــ ما هو المنطق الذي يحكم مسار التاريخ ؟ هل هو منطق الاتصال والاستمرارية أم منطق الانفصال والقطيعة ؟ هل يتقدم التاريخ بانتظام أم تحكمه العشوائية والفجائية ؟ ما هي المبادئ التي يعتمد عليه تقدم التاريخ وتطور التجارب والأحداث الإنسانية ؟ هل التاريخ هو سيرورة تقدم أم صيرورة تطور ؟


2) التحليل

بالعودة إلى بنية السؤال المطروح أمامنا نجد أنه يتضمن مجموعة من المفاهيم والألفاظ التي لها ارتباط وثيق بمفهوم التاريخ من حيث هو مفهوم فلسفي وإشكالي؛ وهنا نشير إلى عبارة "تراكم التجارب الإنسانية" والتي تفيد مجموع الأحداث والوقائع الماضية التي أنتجتها التفاعلات الإنسانية عبر الزمن". أما لفظ "السيرورة التاريخية" فهي تفيد الاتصال والاستمرارية التي يمكن أن تحكم مسار التاريخ، وهذا هو جوهر الإشكال، إذا نتساءل عن المنطق الذي يحكم مسار التاريخ البشري.

وفي سياق المعالجة الفلسفية لهذا الإشكال يمكن أن نفترض أن مسار التاريخ محكوم بمنطق تقدمي مبني على الاتصال والاستمرارية والانتظام. وهنا نستحضر أطروحة المؤرخ ريمون أرون Raymond Aron التي مفادها "أن الأحداث التاريخية تتقدم وفق مسار خطي محكوم بمنطق الاتصال والاستمرارية، وبالتالي فإن التجارب البشرية تأخذ وجهة محددة ومنظمة". لقد رفض هذا المؤرخ الأحكام الجاهزة المرتبطة بفكرة التقدم بحيث أن هذه الأحكام تفتقر إلى العلمية، وتنقص من أهمية فكرة التقدم، وفي مقابل ذلك أسس موقفا علميا مفاده أن تراكم التجارب الإنسانية يرسم وجهة محددة ومتصلة لمسار التاريخ بحيث تحتفظ المراحل اللاحقة بشيء من المراحل السابقة وتضيف عليه وتتجاوزه وفق منحى خطي متصل ومنتظم. وفي مستهل عرضه لهذا الموقف فقد حدد ريمون ارون Raymond Aron العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وكلها مفاهيم ذات دلالة زمنية، معتبرا أن الجيل الحاضر أكثر تطورا مقارنة مع الأجيال الماضية. وأساس هذا التطور نابع بالدرجة الأولى من القدرة على الاحتفاظ والتطوير، وهذا كله يضمن الاستمرارية والاتصال والانتظام لمسار التاريخ، وهذا هو المعنى العلمي الخالص لمفهوم التقدم.


3) المناقشة

إن الإمعان في منطلقات وأبعاد هذا الموقف يجعلنا ندرك أهميته الفلسفية وقيمته العلمية؛ فهو يعد إضافة نوعية إلى مجموع المواقف التي تؤطر النقاش الفلسفي والفكري حول قضية "التاريخ وفكرة التقدم". كما يمكن اعتباره أشار إلى القيمة العلمية لمبدأ الاحتفاظ (الذاكرة الإنسانية) في ضمان استمرارية التاريخ وتراكم التجارب الإنسانية، وهنا تتأكد قيمة الإنسان باعتباره كائنا مفكرا وعاقلا قادرا على الاحتفاظ والتطوير. لكن هذا لا يمنع من الدفع بالإشكال إلى أفق الانفتاح على مواقف فلسفية وفكرية أخرى ترى في تراكم التجارب الإنسانية نوعا من العشوائية، خاصة إذا ما استحضرنا بعض التجارب الإنسانية التي خلفتها الحضارات والأمم السابقة، وهنا نستحضر موقف الانثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوس C.Lévi-Strauss.

يرى ليفي ستراواس Lévi-Strauss، على النقيض مما ذهب إليه ريمون أرون، أن التاريخ ـ التجارب الإنسانية ـ لا يأخذ مسارا خطيا متصلا ومنتظما، بل إن مساره محكوم بمنطق العشوائية والفجائية واللانتظام. وهذه هي الحقيقة التي تغيّبها الأبحاث والدراسات التي يجريها بعض العلماء الذين يتبنون أطروحة الاتصال والاستمرارية؛ إن مسار التاريخ وتراكم التجارب الإنسانية هو مسار عشوائي وغير منتظم مبني على منطق القطيعة والانفصال، وهو ما تدل عليه مجموعة من الشواهد والأمثلة التاريخية. وفي مستوى آخر من هذا الموقف نجد أن ليفي ستراوس Lévi-Strauss لا ينفي فكرة التقدم المنتظم بشكل مطلق، وإنما يدعو إلى الحذر المنهجي والمعرفي في التعاطي مع هذا الموضوع؛ إذ أن التاريخ ليس محكوما بمسار خطي متسلسل ومتصل ومترابط بشكل تراكمي، بل إنه محكوم باللانتظام، ويعتمد في تقدمه على الفجائية والصدفة وهذا ما جعل ستراوس يشبه مسار التاريخ وتراكم التجارب الإنسانية بلعبة النرد؛ فما يمكن كسبه عبر ضربة حظ يظل عرضة للخسارة والفقدان عبر ضربة حظ أخرى. كما شبه الطريقة التي تسير بها الأحداث التاريخية بالمسار الذي يأخذه الفارس في لعبة الشطرنج والتي تكون فيها نوع من العشوائية والفجائية، فأحيانا يحصل تطور إلى الأمام، وأحيانا أخرى يحصل تراجع إلى الخلف، وفي أحيان ثالثة تحصل المراوحة والثبات في المكان.


4)التركيب

إن السؤال الذي عرضناه من خلال لحظتي التحليل والمناقشة هو سؤال فلسفي بامتياز، لأنه اتجه بنا إلى البحث عن مبدأ حركة التاريخ، وعن المنطق الذي يحكم مساراته وصيراراته. وجعلنا نقف عند بعض التصورات الفلسفية والفكرية التي اختلفت وتباينت من حيث رؤيتها لحركة التاريخ؛ فبين من رأى في تقدم الأحداث التاريخية نوعا من التسلسل والاتصال والانتظام (ريمون أرون)، وبين من رأى أن حركة التاريخ محكومة بمنطق الفجائية والصدفة، وأنها لا تخضع لمنطق خطي متصل ولا منتظم ليفي سترواس). نجد أنفسنا أمام واحد من أهم رهانات الوضع البشري في بعده الزمني والمرتبط بمفهوم التاريخ والحركة التي يأخذها مساره باعتباره وضعا يتسم بالتعقيد ننظر فيه إلى الإنسان من حيث هو كائن تاريخي؛ يرتبط بالماضي ويحيا في الحاضر ويستشرف المستقبل.